بسم الله الرحمن الرحيم
تدوين القول الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة بالحكم به
بدأ العلماء الكلام في هذه المسألة في تفريقهم بين المجتهد بأنواعه و المقلد ، و تبعا لذلك نشأ خلاف في تولية أي منهم القضاء و إلزامه بحكم معين . و ملخّص ذلك ما قاله المرداوي (رحمه الله) : "و يشترط في من يتولى القضاء أن يكون مجتهدا مطلقا إن تيسّر و إلا جاز تولية مجتهد مذهب للحاجة فإن لم يتيسر جاز المقلد للحاجة و إلا تعطلت أحكام الناس .
و قد بدأت فكرة التقنين بمحاولة ابن المقفع في القرن الثاني الهجري حيث دعا أبو جعفر المنصور إلى أن يجمع الناس إلى كتاب واحد في القضاء و الأحكام لأنه رأى تناقض الأحكام بين الأمصار لكنه لم يجد رواجا لرفض العلماء له ، و تلاها محاولة الخليفتين المنصور و الرشيد مع الإمام مالك ، ثم محاولة محمد علمكير بكتابه الفتاوى الهندية في القرن الحادي عشر للهجرة ومع ذلك لم يكن ملزما للحكام و لم يكن نمطاً للتقنين بل فروعاً فقهية . أما بدء تنفيذ الفكرة فقد تم عام 1293هـ عندما ظهرت مجلة الأحكام العدلية و قانون المعاملات و شكلت لجنة من كبار علماء الأحناف وصدر الأمر بالعمل بها . ثم في عام 1333هـ صدر قانون حقوق العائلة بالاستفادة من مختلف المذاهب. وقام محمد قدري بعمل مجموعة من القوانين أخذها من المذهب الحنفي مسترشدا بمجلة الأحكام العدلية . و استمرت محاولات متعددة لوضع قانون الأحوال الشخصية ، ففي عام 1335هـ شكلت لجنة برئاسة وزير الحقانية وشرعت بعض الأحكام . و في عام 1355 هـ خطت مصر خطوة رائدة بالتخلّص من التقيد المذهبي بتشكيل لجنة لمشروع قانون الأحوال الشخصية .
وقد لخص صبحي محمصاني مراحل التدوين إلى خمس مراحل:
• مرحلة التبني للمذهب الرسمي و لم ينجح فيها ابن المقفع و لا أبو جعفر المنصور لكن نجحت فيها الدولة العثمانية.
• جمع الكتب ليس على شكل قانون بل كتاب يسهل الرجوع إليه عند التقاضي كالفتاوى الهندية.
• تدوين المذهب الرسمي في مدونات رسمية إلزامية كمجلة الأحكام العدلية .
• تدوين مذهب واحد مع الاستعانة بمذاهب أخرى في بعض المسائل كقانون حقوق العائلة العثمانية.
• اقتباس بعض الأحكام من المدونات الغربية فكان بعضه موافقا للشريعة و بعضه مخالفا لها .
بم يحكم القاضي: ملخص القول ما قاله النووي :(و يحكم باجتهاده إن كان مجتهدا أو اجتهاده مقلده أن كان مقلدا) .
الآراء في تدوين الراجح من أقوال العلماء و الإلزام به:
الأحناف يجيزون الإلزام خلافا لغيرهم فيصححون تكليفه و يبطلون الشرط ويفرقون بين المجتهد والمقلد في ذلك ؛ لأن بعض القضاة قد يقضي بأقضية متناقضة لعدم وجود كتاب على قول واحد يحكمون به مما يؤدي إلى ترافع البعض إلى محاكم أجنبية .
و لأجل ذلك أمر ملك الدولة السعودية بعرض الموضوع على هيئة كبار العلماء ورأت بأكثريتها أنه لا يجوز التدوين على الوجه المقترح و الإلزام به لأنه ليس طريقا للإصلاح ، ومنهم (الشيخ عبد العزيز بن باز ، و عبد الله بن حميد ، و محمد الأمين الشنقيطي ، و عبد الله بن غديان، وصالح اللحيدان ، و عبد الرزاق عفيفي.
و أدلتهم كثيرة منها:
1. من الكتاب قال تعالى ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) وأن إلزام القاضي بالمدون ، ليس في كتاب الله و قوله تعالى (فاحكم بينهم بالقسط). فالآية صريحة في المنع من الحكم بقول مدون ملزم إلا إذا كان جورا و كذلك الكلام في مثيلاتها من الآيات الآمرة برد الحكم إلى الكتاب .
2. من السنة حديث:" القضاة ثلاثة فإذا حكم القاضي بخلاف ما يعتقد فقد جار و أثم". و قد نوقشت بأن المدون شرع الله و مأخوذ من كتب الفقه .
3. أنه يقضي بأن يحكم القاضي بخلاف ما يعتقده و هذا خلاف ما جرى في عهد الرسول و خلفائه الراشدون و السلف الصالح كما ردها الإمام مالك كما سبق.و قد نوقش بـ : أما كون التقنين لم يعمل به في صدور الإسلام والقرون المفضلة , فذلك لأنه في السابق لم يكن كما هو الآن من مسائل معاصرة مستجدة وكثيرة , وخاصة في باب المعاملات يحتاج الحكم فيها إلى اجتهاد ونظر لا يتأتى من أي أحد , وإنما يقدر عليه العلماء المجتهدين , ولو أوكلنا إلى القضاة ذلك لشق عليهم لقلة المجتهدين.
4. أن فيه حجر للقاضي و سد لباب الاجتهاد و الأخذ به ليس فيه رد لله و الرسول و الله تعالى يقول (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) و قد نوقش بأن كون التقنين سبب في سد باب الاجتهاد, فيجاب عنه لأن من أسباب التقنين الرئيسية قلة الاجتهاد والمجتهدين فلم يلتجأ إلى التقنين إلا بعد قلة المجتهدين ثم إن الاجتهاد ليس محصورا في القضاة.
5.أن التدوين حال وضعه لا يقضي على الخلاف بل قصور الفهم قد يرد على مواده كما ورد الخلاف على ما هو أفضل منه القرآن و السنة. و قد نوقشت بأنه وان كان فيه خلاف في فهمه لكنه وبشكل كبير سهل على القضاة والمتقاضين معرفة الحكم بصورة سريعة , وكذلك فصل بين جميع المسائل التي يحتاج النظر فيها إلى وقت واجتهاد. ثم إن الخلاف لابد منه لأن المسائل تستجد باستمرار كما وأن الخلاف فيه أيسر من الخلاف في حكم المسائل الفقهية التي لم تدون ولم تتضح صورتها والتي تحتاج إلى وقت و اجتهاد .
6. لو قيل للقضاة لكم حق الرفع فيما يخالف اعتقادكم. أدى ذلك إلى التهرب من القضايا و تكديسها و لا يقضي أحد للناس.
7. أن معرفة الخصوم لما يرجع إليه القاضي ليس ضروريا فقد جرى الحال في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة على ذلك و لم يقل أحد منهم باتلتقنين.
ثم اتجه أصحاب هذا الرأي إلى طرق أخرى لعلاج الآثار الناشئة عن عدم التقنين و منها:
1. إعداد القضاة علمياً و العناية بهم و تدريبهم.
2. تقليل المحاكم و تركيزها في المدن و عواصم المناطق حتى تتوحد المبادئ القضائية.
3. حسن اختيار القضاة بمراعاة القوة و رجاحة العقل و البعد عن مواطن الريبة.
4. تأليف لجنة من العلماء لبحث المسائل القضائية الهامة التي ربما يشتبه الحكم فيها على بعض القضاة ليتبين لهم الحكم فيها.
5. وجود الخلاف عند السلف في الأحكام و لم يفكروا في تقنين الأحكام المقترح.
6. وبهذا يعلم أن العلاج السليم هي في غير التدوين لأن يفضي إلى فصل الناس عن مصادر الشريعة و الثروة الفقهية.
ثانياً:القائلون بجواز التقنين المستقى من الأحكام الشرعية وبما لا يتعارض معها مـن الـنظم و الإلزام به, و أساس هذا القول عند الحنفية حيث ألزموا القضاة بالحكم بالمذهب الحنفي و كذلك قامت الحكومة السعودية على المفتى به من مذهب الإمام أحمد حيث نص قرار الهيأة القضائية عام 1347 هـ على أن يكون مجرى القضاء منطبقا على المفتي به من مذهب الإمام أحمد , كما أن هناك إلزاما في عدة وقائع قضائية كإلزام الشيخ محمد بن إبراهيم القضاة باعتباره الثلاث طلقات ثلاثا, وكذا الإلزام بالحكم بالقتل لمهرب المخدرات. ومن المعاصرين القائلين به: الشيخ عبد الله منيع, و الشيخ ابن جبير ، و الشيخ راشد بـن خنين و الشيخ عبد الله خياط والشيخ أحمد محمد الشاكر و أبو الأعلى المودودي وغيرهم.
و من أدلتهم:
1. من الكتاب قوله تعالى ( يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم) فتجب طاعة الأمراء بما لا يخالف الشرع و التقنين لا يخالفه و نوقش بأن طاعتهم فيما وضح حكمه و اتفقت عليه الأمة و أما التقنين ففي مواده خلاف
2. وجود الدواعي والأسباب التي تبرر التقنين والإلزام به و أهمها:
أ. وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة أدت إلى اتهام القضاة بإتباع الهوى فيما يقضون. نوقش بأن الخلاف قد يكون ناشئا بسبب الظروف و الأحوال في القضيتين .
ب. أن الناس لا يعرفون الأحكام لعدم وجود كتاب في المعاملات سهل العبارة يبين للناس الأحكام. و نوقش أن القوانين الوضعية مدونة قديما في بعض الدول و لا يعرفها الناس .
ج. تهرب بعض الناس من رفع قضاياهم أمام المحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم دول أجنبية. ونوقش بأن الهروب ليس بسبب عدم تدوين الأحكام بل هي مدونة في الكتب و ميسورة.
د. أن المستوى العلمي لكثير من القضاة لا يؤهلهم للاجتهاد وخاصة في المسائل المستجدة كمسائل الشركات و المقاولات و المعاملات المصرفية و التقنين يساعدهم للوصول للحكم بسهولة.
و. أن التقنين سيسهل على القضاة تطبيق الشريعة لأنه سيعين القاضي على العثـور علـى الحكم دون الحاجة للعناء و النظر في المراجع العديدة التي يصعب الوصول بها إلى الـرأي المطلوب.
2.مما يساعد بالقول به وجود بعض الآثار المماثلة للتقنين مثل جمع عثمان الأمة على حرف واحد من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن, وتحريق المصاحف الأخرى المخالفة, رغم أن القراءات شرع منزل كلها حـق لا يحمل الخطأ ولكنه –رضي الله عنه- وجد المصلحة في جمع الناس على مصحف واحد.و نوقش أن عثمان فعل ذلك حفاظا على الدين ، و مع ذلك يجوز للعالم أن يحتج بالقراءة الأخرى بخلاف التدوين فهو ملزم.
3. أن التقنين عبارة عن اختيار أو ترجيح يأتي من كبار علماء الشريعة ومصدره الشريعة وما يدخل تحتها مما لا يصادم نصا ولا يخالف شيئا من قواعدها , فما المانع منه؟ !
و قد ذكروا مجموعة من الاعتبارات في لتأييد قولهم :
1- ما يؤكده علماء الاجتماع أن القضاء إذا كان قوياً مهيباً دقيقاً في تحقيق العدل كان دليلا على قوة البلاد و حسن إدارتها.
2- علاقة البلاد بالدول الأجنبية و يتبع ذلك قيام اتفاقيات و يتبادل معلومات مما يستلزم أن تعرف الأحكام للعامة و يتحقق ذلك بالتقنين .
3- أن تعدد الوحدات القضائية واللجان أدى إلى تقليص الاختصاص في المحاكم الشرعية و التقنين يحد من ذلك بل يجعل التقاضي إلى المحاكم فقط.
4-أن الوضع القائم الآن في المحاكم هو الإلزام بالحكم الراجح في مذهب الإمام أحمد .
5- انتشار الوعي الحقوقي في البلاد و تطلع تلك الفئات الواعية إلى التعرف على المسالك القضائية .ا.هـ
و لعل المتأمل لواقع السلف الصالح رحمهم الله يجدهم من ذوي البصيرة و علو الفقه و الأمانة و البعد عن إتباع الهوى و مواطن الريبة و لا خلاف واسع بينهم جعل الناس تثق بفتاويهم و أقضيتهم و لذلك لم توجد بينهم مشاكل تذكر و لكن لما ضعفت القريحة و قصر النظر و اتسع الخلاف و كثرت الفتاوى و تعددت الأحكام و الأقضية مع تتطاول الزمن و تعدد الأحداث و تنوعها و اختلاف الأحكام في القضية الواحدة رغم تماثلها فدب في الناس الشك و كثرت الظنون لهذا و غيره أرى أن الحاجة ماسة إلى تدوين القول الراجح من أقوال أهل العلماء و إلزام القضاة به و يؤيد ذلك ما يلي:
1- للاعتبارات أنفة الذكر التي قال بها المؤيدون للتقنين.
2- ما يلاحظ من واقع القضاة اليوم و خاصة فيما يخدم البحث من خلو معظمهم من القوة في العلم و قصورهم عن بلوغ مرحلة الاجتهاد التي تكلم عنها العلماء و التي يحرم على العالم فيها مخالفة رأيه و الحالة هذه و التي يقول فيها القرافي " أن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده و إن كان مقلدا جاز له " و كذلك ما ذكره العلماء من أنه يجوز للمجتهد أن يقلد لضيق الوقت و في ذلك يقول ابن مفلح في أصوله و نسبه للإمام" وعنه يجوز مع ضيق الوقت " و قال شيخ الإسلام " و إن لم يمكن لضيق الوقت و عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من أرتضى علمه و دينه هذا أقوى الأقوال " فالقاضي أن كان مقلداً – وهو الغالب- فلا حرج في عمله بالراجح لقول كثير من الأئمة بذلك و أن كان مجتهدا فله ذلك لضيق الوقت .
3- و نظرا لكون خريج كلية لشريعة و أن حصل على تقدير ممتاز و لو تأهل بدراسة أخرى لا تبلغه هذه رتبة الاجتهاد فأن وجود أحكام شرعية مختارة له من قبل هيئة متخصصة يكون أدعى لتحقيق العدل بين الناس و يكفل تحقيق المساواة بينهم و خير له فيما لو دعت له مسألة لم يطلع عليها أن يتخبط فيها.
4- يعتبر العالم كالقرية الصغيرة تعرف فيها أحكام القضاة لحظة صدورها و في أي مكان في المملكة بل في العالم مما يعني العناية بدقة الأحكام و مساواتها لغيرة و بعدها عن التساهل و الجور و هذا بخلاف ما كانوا عليه في الزمن السابق مما يستلزم القول بالإلزام بالقول الراجح.
5- غير خاف ما جد في هذا الزمان من قضايا و أحداث مستجدة لم يكتبها العلماء السابقين في كتبهم و لم يقضي بها القضاة السابقين مما يصعب معه الحكم فيها على القضاة في زماننا و هذا يدعو إلى القول بالإلزام بالحكم في هذه المسألة من متخصصين بحثوا فيها.
6- أن في القول بالإلزام بالحكم مصلحة عامة للمجتمع تدعوا إليها الحاجة و إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله كما أشار إلى ذلك أحمد موافى.
و ثمة أمور يحسن ذكرها لنرتقي بهذا المرفق الحيوي الهام :
1- أن يكون ما دوّن يرجع لمستند شرعي فلا يكون مخالفاً له أو قولا مرجوحاً في المسألة
2- تكوين لجنة دائمة لمراجعة أحكام القضاة و يعرض عليها ما يجد من قضايا لم يتم تدوينها فيها و يتميز أعضاؤها بقوة ملكتهم الفقهية.
3- السعي لتطوير القضاة بشكل مستمر بإلحاقهم بدورات تأهيلية لتعينهم على أداء عملهم و تعريفهم بكيفية التعامل مع ما دون في هذه الأحكام و تطوير أدائهم بتثقيفهم في عادات الناس و تدريبهم في التعامل بالحاسب الآلي و اللغة الإنجليزية و دورات في تطوير الذات و فن التعامل مع الآخرين.
4- وضع اختبار للكفايات لكي يتحقق من مقدرته على القضاء و الحكم بما في هذه المدونات و مقدرته على التعامل مع النصوص الواردة فيها.
5- ربط أحكام القضاة التي تصدر منهم بشبكة الكترونية ليتمكنوا من الاطلاع على قضايا بعضهم البعض و تعم الفائدة في جميع محاكم المملكة.
6- تقبل مقترحات المستفيدين من خدمة القضاء أيّاً كانوا على مواقع إلكترونية أو بريدية و عرضها على لجان متخصصة للرقي بهذا المرفق الهام.
7- تفعيل مبدأ علانية الجلسات ففيه رقابة على القاضي ليقضي بما هو مدون و ليبذل القاضي و سعه في تحري الحكم.
و الله أسأل أن يوفق الجميع لما فيه صالح البلاد و العباد
داود بن عبد العزيز الداود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق